العنف ضد الأطفال
ذ/محمد أيطاح
الطفل حسب التصنيفات الدولية هو كل إنسان لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره بعد ، وقد أقرت حقوق الأطفال في شرعة دولية أطلق عليها اسم " اتفاقية حقوق الطفل " وقعت عليها جميع دول العالم باستثناء دولتين من بينهما الولايات المتحدة الأمريكية " .
لا بد من الإقرار أن الخوض في هذا الموضوع الشائك يبقى قاصرا تنقصه الدقة العلمية , وذلك لعدم توفر أي إحصائيات أو مراكز أبحاث تعنى بهذا الموضوع في بلادنا , أي أننا لا نملك لمعالجة الموضوع أي مصادر ميدانية , باستثناء بعض التحقيقات الصحفية المتفرقة التي يقوم بها بعض الصحفيين بجهودهم الشخصية , والتي تعطينا ربما بعض الإشارات والدلالات .
كما في كل المجتمعات التي يسود فيها بصرامة النظام الأبوي , يعتب مجتمعنا الأولاد والزوجة من حيث المبدأ ملك للأب , يتصرف بأمورهم وشؤونهم كما يشاء , بل حتى بأرواحهم في بعض الحالات النادرة والتي سآتي على ذكرها لاحقا , وإن كان هذا الشكل من العلاقة قد تغير في العقود الأخيرة بحكم التطور والاحتكاك بالحضارات والثقافات الأخرى , إلا أنه لا يزال موجودا , بشكل أو بآخر , ضمن العلاقات الأسرية أو حتى علاقات الكبار بالصغار , حيث يشكل المعلم أو رب العمل تجسيدا لسلطة الأب بالنسبة للطفل الذي تحت أمرته .
كذلك فإن الطفل في ثقافتنا وضميرنا الجمعي , هو استثمار للمستقبل , فنحن نربي الأطفال , كما يقال كي يردوا لنا الجميل في المستقبل ويرعونا في شيخوختنا , وهذه نقطة هامة تبرر الكثير من تصرفات الآباء تجاه الأبناء كالتحكم بمستقبلهم ومصائرهم , وتفسر تعلق الأهل الشديد بأولادهم مما قد يولد بالنتيجة وضعا ايجابيا يتجلى بالعلاقات الأسرية المترابطة , والتزام العائلة كلها وليس الأسرة الصغيرة فقط تجاه الأقارب , وهذا الوضع يحمي الأطفال في غياب المؤسسات التي يمكن أن تكون مسئولة عن الطفل في غياب والديه .
إن هذا الشكل من العلاقات , أي الطفل في ظل السلطة الأبوية البطريركية , يولد أشكالا مختلفة من العنف الجسدي والنفسي , الذي يمارس على الطفل , والتي يمكن أن نصنفها تصنيفا أوليا كما يلي :
ـ العنف المنزلي : وهو العنف الذي يمارس ضمن الأسرة الواحدة من قبل الأب أو من يمثل سلطته في غيابه( الأم ، الأخ الأكبر ) فلا يوجد أي قانون أو عرف اجتماعي يمنع الأب من ممارسة الضرب أو أي شكل من أشكال العنف الجسدي في إطار ما يدعيه من تربية للطفل أو تقويم لأخلاقه , وأنا أعرف عددا لا بأس به من الآباء الذين يجلدون أولادهم بأحزمتهم الجلدية مثلا , أو يضربونهم بشراسة تترك آثارا لا تخفى على أجسادهم , وقد سبق لي كطبيبة أن قطبت جروحا لأطفال ادعى آباؤهم أو أمهاتهم ـ اللاتي تتسترن عادة على عنف الأب ـ أنها حدثت بأسباب مختلفة , ليس خوفا من القانون الذي لن يحاسبهم , بل خوفا من سماع التقريع واللوم من فئة من المجتمع أعلنت استنكارها منذ سنوات لمثل ذلك العنف وباتت تصف الآباء العنيفين بالمتخلفين , وهي صفة غدت في السنوات الأخيرة , وبخاصة في المدن صفة غير مرغوبة .
ربما تندر أشكال العنف المبالغ به من الأب تجاه أولاده حاليا , إلا أن ضرب الأطفال المبرح لازال شائعا وبكثرة , وحتى ضمن الأسر المتعلمة المثقفة , فذلك جزء من إرث اجتماعي مباح .
هنالك عنف يمارس حتى من الأمهات في مجتمعنا , والشهيرات بحبهن الشديد وتعلقهن بأولادهن , على الأطفال . فمن الشائع ضرب الأمهات لأولادهن ضربا مبرحا , ربما يترك أثره على أجسادهم , وكما ذكرت يعتبر ذلك في سياق ضرورات العملية التربوية , وربما يعبر عنها المثل الشعبي الدارج " العصا خرجت من الجنة " , وأذكر أنني عندما كان أولادي صغارا وكنت في يصدد تعليمهم الاستغناء عن الحفاظ , أن نصحتني بعض الأمهات الحنونات الخبيرات بطريقة سريعة وفعالة للنجاح في هذه العملية التي تستغرق جهدا وزمنا كبيرين , باتباع أسلوب سريع ناجع يقمن به بكل بساطة , بأن يحرقن العضو التناسلي للطفل بعود الكبريت أو يضعن عليه ملقط غسيل عندما يغلط الطفل وينسى فيبلل ثيابه , سواء كان الطفل ذكرا أو أنثى , ويحصلن بذلك على نتائج سريعة , وقد أثار يومها استنكاري واشمئزازي وثورتي العارمة دهشتهن .
يضاف إلى ذلك العنف النفسي الذي يمارس على الأطفال كالشتم أو التقريع أو التعيير , ناهيك عن الحبس في مكان مغلق , كالحمام مثلا ساعات طويلة , أو غير ذلك من أساليب التعذيب التي تضاهي أحيانا ما يبتدعه عقل مجرم , فقد حكت لي إحدى مريضاتي , وكانت تقهقه ضاحكة بأن زوجها حبس ابنهما الصغير ـ يبلغ من العمر 7 سنوات ـ في قبو البناية , ودلى من الشباك لعبة مربوطة بخيط فوق رأسه , حتى بات الطفل يصرخ فزعا , ولم أستطع استنباط الحكمة من تصرف كهذا , أو حتى اللجوء إلى الشرطة ليقيني أن ذلك لن يفضي إلى شيء , واكتفيت بلوم المرأة وتقريعها , وهي تنظر إلي شزرا , وتعد نفسها ضمنا بعدم الرجوع إلى عيادتي .
يضاف إلى ذلك العنف الذي يمارس أكثر على البنات ,ففي المجتمع الأبوي تضطهد فئتان اجتماعيتان هما النساء والأطفال وبذلك يقع على الطفلة عنف مركب كونها أنثى وكونها طفلة ، وبخاصة إذا لم يلتزمن بالتعليمات التي تتعلق باللباس المحتشم , والذي تختلف مقاييسه من مدينة لأخرى , وحي وآخر , بل ضمن العائلة نفسها , أما إذا ضبطت البنت وهي تحادث صبيا أو شابا , فالعقاب مباح بكل أشكاله , وقد يصل حدود القتل , والأب أو الأخ القاتل لا يسجن أكثر من أشهر قليلة أو أيام , لأن جريمته كانت دفاعا عن الشرف , حتى ولو كان الموضوع مجرد شبهة , وهذا ما قصدته في البداية , عندما قلت بأن حياة الأولاد نفسها ملك للأب يستطيع أحيانا التصرف بها كما يشاء , إلا أن هذه الحالات قد أصبحت لحسن الحظ نادرة في بلادنا بعد أ ن ساهم التطور والتقدم في تغيير العقليات المتحجرة .
وهنالك عنف من نوع آخر يمارسه الأهل على أولادهم بتقرير مستقبلهم وإجبارهم على العمل أو الدراسة حسب ما يخططه الأهل لهم دون مراعاة لرغبات الطفل أو إمكانياته أو مواهبه .
ـ العنف في المدرسة : لا يعتبر الضرب الذي يمارسه المعلمون على الطلاب عملا مستهجنا , حتى من قبل الأهل أحيانا , وذلك عائد إلى السلوك المجتمعي الذي كان سائدا فيما مضى في الكتاتيب , قبل إنشاء المدارس الرسمية , حيث كان الأهل يقتادون الطفل إلى المعلم ويقولون له " اللحم لك والعظم لنا " دلالة على أن بإمكان المعلم ضرب الطفل إلى أن يهري لحمه , المهم أن يبقي على عظمه , أي يبقيه على قيد الحياة , وذلك ما كان امتدادا لأساليب التربية المتبعة في المنزل , والتي كان الضرب دعامتها الرئيسية , وقد كان شائعا في تلك الكتاتيب الضرب بالعصا , أو " الفلقة" , وهي نفس الطريقة التي كانت تتبعها الإدارة العثمانية لتعذيب المجرمين في السجون ! ! وقد سمعت أن إحدى المدارس المعروفة في دمشق والمشهورة بصرامتها وتزمتها , لا تزال تتبع هذا الأسلوب التربوي الفذ اليوم مع طلابها المشاغبين .
وأنا أقرأ في الجرائد دائما عن حوادث تحدث في مدارسنا دائما , يتجاوز المعلمون فيها اللحم ليصلوا إلى كسر عظم الطلاب , وقد نشرت الجرائد في العام الماضي حادثة أدى فيها ضرب المعلمة لأحد الطلاب إلى موته , إثر إصابته بنزيف داخلي على ما يبدو , وقد حاولت إدارة المدرسة طمس الجريمة , ولم أسمع بعدها أن المعلمة عوقبت . وحتى لو كانت تلك الحوادث نادرة , إلا أن من الشائع اليوم وحتى في أفضل المدارس الصفع, والضرب بالمسطرة , بل والركل أحيانا , دون وجود أي جهة تحاسب المعلم المعتدي , الذي يعتبر الضرب جزءا من وظيفته التربوية , وليس من النادر أن تترك مثل هذه الاعتداءات آثارا جسدية على الطالب , وإن بدأ الأهل في السنوات الأخيرة فقط يحتجون على مثل تلك التصرفات , وفي حالات نادرة يرفعون دعوى قضائية ضد المعلم , وقد ولد هذا العنف في بعض المدارس الثانوية عنفا مضادا من قبل الطلاب , إذ أننا نسمع أحيانا بطالب هجم على أستاذه وأوسعه لكما وضربا , وليس من الخافي التأثير السلبي للعنف والعنف المضاد على العملية التربوية .
كذلك من المألوف أن يوجه الأساتذة للطلاب أقذع الشتائم ويصفونهم بأبشع الصفات في حالات غضبهم , ذلك الغضب المزمن الذي غدا قاعدة لسلوك المعلمين تجاه طلابهم في السنوات الخيرة , بعد أن ضاق المعلم بصف يحوي أكثر من أربعين طالبا , يدرسهم مقابل راتب لا يكفيه أياما قليلة من الشهر هو وأسرته .
أضف إلى ذلك التمييز بين الطلاب , حيث يقوم المعلمون بمحاباة الطالب الذي ينتمي للأسر ذات السطوة , فيعاملونه معاملة خاصة , ولا يجرؤون على مسه , في حين ينهالون بالضرب على الطالب العادي لأقل هفوة .
ـ عمالة الأطفال: رغم نظام التعليم الإلزامي للمرحلة الابتدائية , والذي طبق في بلادنا منذ سنوات , إلا أن هنالك قسما لا بأس به من الأطفال يتسربون من المدارس نحو سوق العمل , وبخاصة من الأسر الفقيرة , وحتى لو أكمل الطفل تعليمه الابتدائي , فإنه يعمل في الصيف , وينهي دراسته الابتدائية بعمر ال12 سنة , أي وهو لازال طفلا , لينخرط في العمل . ويفضل الحرفيون , وأصحاب المتاجر تشغيل الأطفال كما هو معلوم لرخص يدهم العاملة , وسهولة السيطرة عليهم .
إن سلوك رب العمل يشابه تماما سلوك المعلم بالنسبة للطفل , فأهل الطفل يطلقون يده في ممارسة العنف تجاه طفلهم , ويرون ذلك في مصلحة الطفل , كما كان يحدث في الماضي , عندما كان الأهل يعاملون صاحب الحرفة الذي يشغل ابنهم كالمعلم تماما بل ويطلقون عليه نفس الاسم , وهذا ما استمر إلى يومنا هذا , حيث يحق لصاحب الصنعة أن يشتم الطفل الذي يعمل عنده ويضربه بقسوة بالغة إذا انزعج منه , دون اعتراض من الأهل الذين يرون ذلك في مصلحة ابنهم , أو ربما يخافون من أن يفقد عمله , حتى لو بلغ العنف الواقع عليه مبلغا لا يسكت عليه .
هذا عدا عن أن رب العمل يشغل الطفل ساعات طويلة , ويرهقه بأعمال فوق طاقة تحمل جسده الطري , وقد كدت اشتبك في مشاجرة مع البقال الملاصق لبيتي , عندما أرسل لي صندوق مياه معدنية , حملها لي طفل في حوالي السابعة أو الثامنة من العمر أربعة طوابق .
ـ العنف في الشارع : ضمن هذه المنظومة الأخلاقية والاجتماعية , من الطبيعي أن ينعكس العنف على علاقات الناس مع بعضها , فكل كبير يحق له حكما صفع أو ضرب أو ركل أي طفل لم يعجبه تصرفه في الشارع , إذا لم يكن هناك من يحمي الطفل , كذلك ينعكس العنف الذي يمارسه الكبار ضد الأطفال على نفسية الأطفال الذين يصبحون عدائيين تجاه بعضهم البعض , وقد يصل حدود أذاهم لبعضهم حد الجريمة .
إن تلك بشكل عام الخطوط الرئيسية للعنف الواقع على الأطفال في بلادنا يضاف إلى ذلك العنف الجنسي والعنف الذي يقع على الأطفال ذوي الأوضاع الخاصة. *
العنف الجنسي ضد الأطفال :
قليلا ما نسمع بحوادث العنف الجنسي ضد الأطفال, ولا أدري إن كان ذلك يعود إلى قلتها, أو لأن الأهل يحاولون التستر عليها خوف الفضيحة, وهو الأرجح .
ـ غشيان المحارم : لا شك أن هنالك حوادث اغتصاب للأولاد والبنات من قبل المحارم , وإن كان ذلك يبقى عادة طي الكتمان , إلا أن بعض هذه الحوادث لابد أن يرشح إلى الأوساط الاجتماعية , أو الصحافة , وقد اطلعت شخصيا على بعض هذه الحوادث بحكم عملي كطبيبة , وغالبا ما تسعى العائلة المنكوبة في هذه الحالة إلى لملمة المسألة , وأعرف حادثة حملت فيها صبية صغيرة من أبيها وأنجبت طفلة سجلت على أنها أختها , وبقيت الأمور تسير بشكل طبيعي إلى أن اعترفت البنت لخطيبها بما حدث , فتركها هاربا وكانت النتيجة أن قتل عم البنت أباها . فالنتائج المدمرة لفضح مثل هذه الحالات تجعل الجميع , حتى الأم تسكت إذا ما عرفت باغتصاب ابنتها من قبل أحد المحارم , وتبقى الفتاة عادة هي الضحية الوحيدة لمثل هذا العنف , وأعتقد أن الصبيان يتعرضون أيضا للاغتصاب من قبل المحارم , إلا أن ذلك يتم التستر عليه بحزم, وبخاصة أن هذا موضوع يمكن إخفاؤه , والمتضرر الأساسي هو الطفل الذي غالبا ما يهدد كي يسكت عما حدث له .
ـ الاغتصاب : من الطبيعي أن مجتمعنا كبقية المجتمعات الإنسانية , تتعرض فيه البنات والصبيان للاغتصاب , ولكن لأن ليس لدينا دراسات أو إحصائيات عن ذلك , وحتى لو رغبت أي جهة بإجراء دراسة فستصطدم بالتكتم الشديد الذي يحيط به الأهل مثل هذه الحوادث , ولكن ما يدل على حدوثها , وجود عدد من الأطفال اللقطاء الذين تساوي نسبتهم النسبة الموجودة في أي مجتمع آخر , وقد يوجد أحيانا الطفل اللقيط مقتولا .
ـ جرائم الشرف : لحسن الحظ تضاءلت جرائم الشرف في مجتمعنا إلى حدودها القصوى , رغم تساهل القانون في معاقبة القريب الذي يقتل قريبته دفاعا عن شرف العائلة , حتى لمجرد الاشتباه بتصرفها غير اللائق اجتماعيا , ويمكن أن نعزو ندرة تلك الحوادث إلى التطور والوعي الذي يترافق دوما بنزوع الرجل من العـــنف إلى المـــزيد من المســـالمة , وإلى قدرة النساء على التحرك خارج البيت مما يتيح للفتاة أو لأمها ـ التي تساعدها غالبا ـ تدارك أية فضيحة محتملة .
أما بالنسبة للأطفال ذوي الظروف الخاصة , فيقع عليهم ظلم مضاعف , أولا بسبب طفولتهم وثانيا بسبب ظرفهم , ويمكن أن نقسم هؤلاء الأطفال إلى عدة مجموعات : ـ الأطفال الذين يعانون من صعوبة في التعلم : منذ أن شاع التعليم في بلادنا , وغدا مفتاحا للعمل والمكانة الاجتماعية , اتجه الأهل من الطبقة المتوسطة , والتي تشكل الغالبية في سورية , إلى تعليم أولادهم , وبذل الكثير في سبيل ذلك , ليس فقط لتأمين مستقبل الطفل بل لضمان مستقبلهم هم , والتباهي بابنهم المتعلم أمام الآخرين , وغدا الطفل الذي يجد صعوبة في التعلم كارثة وعارا على أهلـــــه , ولم يقتنع الأهل أبدا بأن بعض الأطفال لديهم مشكلة فيزيولوجية بنيوية تجعل التعلم عندهم صعبا , بل عزوه دائما إلى إهمال الطفل وكسله , لذا يمارس على هؤلاء الأطفال عنفا منزليا يبدأ من الحرمان من كل وسائل التسلية وينتهي بالضرب مرورا بالشتم وتعيير الطفل دائما بفشله , وقد حدثت منذ شهرين تقريبا حادثة , أدى فيها شتم الأب لابنه وتعييره بالفشل والخيبة إلى انتحار الفتى بإلقاء نفسه من الدور الرابع , وقد سمعت من الجيران فيما بعد أن الفتى كان يعاني من اضطرابات نفسية وصعوبة في التعلم . أضف إلى ذلك أن دورة العنف هذه يكملها الأساتذة في المدرسة بتوجيه الإهانات والشتائم والضرب لهؤلاء الطلاب , دون مـــراعاة إمكانياتهم , ودون أن تسعى جهة ما إلى دراسة حالاتهم , وإنشاء مدارس أو مراكز خاصة بهم .
ـ المعوقون : يمارس تجاه المعوقين جسديا وعقليا عنفا غير إنساني . فالمعوقون جسديا لا يتلقون من المجتمع في أحسن الحالات أكثر من نظرات الشفقة , وبخاصة في الأوساط الفقيرة , أما بالنسبة للمؤسسات القليلة المخصصة لهم , كمدرسة الصم مثلا , فيمارس عنف مضاعف عما يمارس في المدارس العادية بوجود مشرفين غير أخصائيين , وحتى عندما يحاول أحد المختصين المخلصين لعملهم , الصادقين في رغبتهم مساعدة الأطفال , فإنه يصطدم بالإمكانات القليلة , وبالجهلة الذين يشاركونه في الإشراف على الصغار , والذين يمنعــون أي تطور في عمليــة التعليم ومساعدة أولئك البؤساء .
أما بالنسبة للمعوقين عقليا , فهؤلاء يمثلون البؤس بكل معانيه , فبعض الأسر الفقيرة والجاهلة , لا تدري ماذا تفعل بهذا البلاء الذي انصب عليها من السماء , ولاشيء يردع هذه الأسر من استخدام أية وسيلة للتعامل مع الطفل المتخلف , خصوصا إذا كان شرسا و وقد يصل الأمر إلى تقييده بالسلاسل , وبخاصة إذا كان بنتا , خشية قيامها بأفعال تفضح الأهل , وإن ندرت مثل هذه الحوادث في السنوات الأخيرة . إضافة إلى عدم وجود مراكز مؤهلة كافية لاستيعاب أعداد الأطفال المتخلفين عقليا , لتعليمهم أو تدريبهم على كسب قوتهم , ويقتصر الأمر على الجهود الفردية للأسر المتنورة للقيام بذلك , فقد أقام والدان مثقفان لابنهما المنغولي قبل أشهر معرضا للرسم بعد أن نميا لديه هذه الموهبة , وهما بجهودهما الفردية بصدد افتتاح مركز لتدريب المعوقين يصطدم بالمعوقات البيروقراطية .
ـ الأيتام : غالبا ما يرعى الطفل اليتيم في بلادنا أحد أقاربه في حالة وفاة الوالدين , وهو عرف شائع لتماسك الروابط العائلية , ولكن هنالك بعض الأيتام الذين لا يجدون من يؤويهم , فيرسلون إلى ملاجئ الأيتام , وقد نشر عدد من التحقيقات في الجرائد السورية قام بها بعض الصحفيين تناولت وضع بعض هذه الملاجئ في سورية , وتبين أن الأطفال فيها يمارس عليهم عنف , صعب التصديق في غالب الأحيان , سواء كان عنف جسدي أو نفسي , وقد هدد الأطفال الذين أرادوا التحدث عن معاناتهم للصحافة من قبل إدارات الملاجئ, إلا أن إحدى الحالات التي وصلت إلى المستشفى بحالة خطرة نتيجة تعرضها لاعتداء بالضرب من قبل إحدى المشرفات , فضحت جميع الممارسات اللاإنسانية وأثارت ضجة كبيرة آنذاك , إلا أنني متأكدة أن شيئا من الوضع لم يتغير بعد ذلك , وقد لوحظ أن جميع هؤلاء الأيتام فاشلين في دراستهم , لعدم توفر الظروف المساعدة , وبالتالي فإنهم يتخرجون من دار الأيتام إلى الشارع دون أي مؤهل يساعدهم على كسب عيشهم أو الانخراط في المجتمع . ولا يساعد هؤلاء الأطفال البائسين سوى بعض الأفراد أصحاب القلوب الخيرة , ولكن تبقى هذه المساعدات فردية ,يضاف إلى ذلك عدم وجود نظام التبني في مجتمعاتنا , بسبب رفضه دينيا .
ـ المشردون : كما ذكرت سابقا , نادرا ما يعيش الأطفال وحيدين إذ أن النظام العائلي المتماسك يؤمن لهم دائما مأوى عند أحد الأقارب , إلا أن ذلك لا ينفي وجود المشردين الذين يتعاطون التسول كمهنة , والذين يستغلون من قبل عصابات تسول يديرها الكبار , وحتى لو كان هناك سقف يؤويهم ليلا , فهم مشردون في الشوارع طوال النهار , ومن الشائع رؤيتهم يتجولون أمام إشارات المرور بين عجلات السيارات يتسولون بشكل مباشر أو غير مباشر ـ مسح زجاج السيارات ـ متعرضين لبرد الشتاء القارس , وحمى الصيف اللاهبة , وخطر الدهس من قبل إحدى السيارات التي تسير عند فتح الإشارة ولازال الأطفال يتجولون بينها , وعدا عن الإهانة التي يتعرض لها الأولاد في الشوارع أو الاستغلال من الكبار فإن الشارع كما هو معروف مرتع خصب للعنف والجريمة والانحراف .
ـ الجانحون : وهم أكثر فئات الأطفال بؤسا , فهم يخضعون لعنف المجرمين الكبار الذين يشغلونهم , وكذلك للعنف حين القبض عليهم , حيث يعاملون في سجون الأحداث تماما كالمجرمين البالغين . إن سجون الأحداث كما أشارت إلى ذلك التحقيقات الصحفية الكثيرة التي أجريت في السنوات الماضية , سواء تلك المختصة بالبنات أو الصبيان , مكان لممارسة العنف الفائق بجميع أشكاله , فكل شيء مباح هناك من قبل المشرفين الذين لا يعدو ن كونهم سجانين , دون أي خبرة بالمساعدة الاجتماعية أو المعالجة النفسية , وببساطة يمكن القول أن الأطفال الجانحين يعاملون هناك كالبهائم لا كالبشر , ولا أعتقد أن هناك جهة يمكن أن تحمي حقوقهم هناك , بل حتى حياتهم . وهكذا تغدو إصلاحيات الأحداث مكانا مهيئا لتخريج مجرمين سيفقدون إنسانيتهم ويروعون مجتمعاتهم بتطوير حقدهم وأساليب الجريمة عندهم بعد قضاء فترة عقوبتـــهم .
لاشك أن هناك بعض الإضاءات التي تتخلل هذه الصورة التي تبدو للوهلة الأولى سوداء :
ـ فالعنف الذي يمارسه الأهل تجاه أطفالهم والذي هو جزء من الإرث الجمعي لمجتمعاتنا يقابله حب كبير من كثير من الأهل نحو أبنائهم , وإحساسهم بالالتزام والمسؤولية تجاههم , وعمق الروابط العائلية ومتانتها .
ـ لقد بدأ العنف تجاه الأطفال وبخاصة ضمن الأسرة , يتراجع مع درجة الوعي والثقافة التي بدأت تنير عقول شريحة لا بأس بها في المجتمع وبخاصة في أوساط الطبقة الوسطى .
ـ تراجع العنف الذي كان منتشرا في الريف والذي كان يعتبر الطفل جزءا من اليد العاملة في الأسرة الفلاحية , بانتشار التعليم في الريف , ورغبة الأسر الريفية في تعليم أطفالها لتحسين مستوى معيشتها , وقد تبع انتشار التعليم طبعا , انتشار الوعي وبالتالي فمن الطبيعي أن تحسنت شروط حياة الطفل والمرأة في الريف .
ـ تراجع العنف الممارس ضد الأطفال في المدارس بوقوف الأهل وبخاصة الواعين منهم ضد أسلوب العنف من أجل التعلم , وبعد أن أخذت الصحافة دورها في فضح بعض الممارسات العنيفة من المعلمين تجاه طلابهم .
ـ تمارس الدولة دورا وإن كان خجولا وفي حده الأدنى للحد من هذه الظاهرة كالتوقيع على المعاهدات التي تحمي حقوق الطفل , ومحاولة تغيير و سن بعض القوانين التي تحمي الطفل , كمنع الضرب في المدارس , وإن كانت لا تطبق اليوم , إلا أنها خطوة نحو الأمام . ويعتبر صدور قانون التعليم الإلزامي الذي يشمل المرحلة الإعدادية من أهم الخطوات التي قامت بها الدولة في الفترة الأخيرة , والتي ستقود إلى منح الأطفال مزيدا من الحقوق في المجتمع .
ـ تحاول بعض التجمعات الأهلية , أو الباحثين , أو المعنيين بالأطفال , أو المدافعين عن حقوق الإنسان في المجتمع , العمل قدر استطاعتهم على التعريف بحقوق الطفل , وتغيير النظرة إلى العملية التربوية , لكن جهودهم تصطدم بالكثير من المعوقات التي تكبلهم , أهمها عدم دعم الدولة لهم , رغم أن أكثر المجتمعات تقدما تعطي أهمية كبيرة لمؤسسات المجتمع المدني التي تعتبر رديفا أساسيا لعمل المنظمات الحكومية .
ـ بدأ الإعلام في السنوات الأخيرة بجهود المؤسسات الرسمية أو الأفراد المؤمنين بقضايا حقوق الإنسان والمخلصين الساعين إلى تحسين الأوضاع الاجتماعية , سواء في الصحافة أو الإعلام المرئي والمسموع , بالتعريف بحقوق الأطفال ومحاولة تغيير الكثير من العادات البالية و فضح كثير من حوادث العنف الواقع على الأطفال .
أخيرا لابد من تعاضد جهود جميع المخلصين في المؤسسات الحكومية أو الأهلية ، وتضافر جهودها لنشر الوعي بحقوق الطفل وأساليب التربية السليمة القائمة على التفهم والحرية المسئولة سواء في البيت أو المدرسة ، ومحاربة عمالة الأطفال وتسربهم من المدارس ، وإقامة محكمة يلجأ إليها كل فرد مضطهد من الأسرة يتعرض لعنف شرس من قبل أحد أفراد الأسرة ، وتشجيع الجمعيات التي تعنى بحقوق الطفل ، وتشجيع وسائل الإعلام وبخاصة الأعمال الدرامية التي تشاهد بكثرة على ترسيخ مفاهيم جديدة تقوم على احترام الطفل والحفاظ على حقوقه في الحياة والحرية والتعلم وتنمية الهوايات و الرياضة و اللعب , كي ينشؤوا مواطنين أحرارا أسوياء .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire